مع الغروب ... حكاية من الوطن
قالت بعد لحظة صمت بدت لي طويلة جداً :
لا أظنه سيخرج هذه المرة ، و لا أظن أنني سأتمكن من رؤيته مجددا، لم أتخيل أبداً أن كل أحلامنا ستذوب هكذا و فجأة و أن المستقبل الذي رسمنا ملامحه معاً أصبح في حكم الضياع .
لا أدري أي قوة كبلتني فلم أستطع أن أجيبها بما يواسيها و يمسح من نظراتها قليلاً من ذلك الأسى ..
خلتُ حينها أن أي كلمة أقولها ستبدو تافهة لا وزن لها و لا قيمة ، اكتفيت بالصمت و رحلتُ بذاكرتي صوب فضاء ماض قريب أستحضر شيئاً من خطوطه :
كانت عيناها يومها تتوهجان بلون خاص ظننت أني أراه للمرة الأولى، أخبرتني أنهما سيكونان معاً أخيراً، و كانت كلماتها تفيض بالحياة و هي تحدثني عن المستقبل الذي سيأتي قريباً و عن الأحلام التي التأمت أخيراً بعد رحلة عذاب شاقة ..
كان قد خرج لتوه من السجن، و لم ينس أن هناك عينان انتظرتاه بصبر فريد، رغم أنهما لم يكونا قد ارتبطا بشكل رسمي ..
أذكر أنه أرسل لها يوماً رسالة يقول لها فيها أن لا تنظره أن تختار طريقها بعيداً عنه، و أن تعيش حياتها كغيرها فهو لا يعلم ما سيحل به و كم سيطول غيابه ..
بكت كثيراً في ذلك اليوم و اتهمته بالقسوة، و كتبت له بتلك الدموع أنها تريد أن تظل على العهد حتى لو بقي من الدنيا يوم واحد، و أنها تريد رجلاً حقيقياً يحمل الهم و لا يعيش لذاته و حسب ..
و منذ ذلك اليوم صار الصبر زادها و الدعاء في جوف الليل سلاح الأمل الذي ظل مرسوماً على ملامحها ..
و حين عاد كانت البشرى بيوم جميل تطوف مع دموع الفرح الذي لم يدم طويلا ..
قطعت تلك المشاهد الماضية على وقع كلمات هزتني من الأعماق ، قالت:
لا أعرف لماذا حين يقترب الجرح من الالتئام لا يلبث أن ينفتح من جديد ، لا أدري لماذا حين تقترب أجمل اللحظات من ذروتها تنقلب إلى النقيض ..
لم أنتبه لتلك الدموع التي غطت مساحات الوطن في عيونها ، كنت قد جلست بجانبها مطرقة على ذلك المقعد الخشبي تحت شجرة السرو التي حفظت عنا كل الأسرار و الأمنيات ..
ابك يا عزيزتي فما أجمل الدموع حين تطهر أرواحنا و تنثر في أجوائها شيئاً من الإصرار و الطمأنينة ، و تغسل مرايا العيون لعلّنا نرى بعدها الدنيا بلون جديد ..
كانت تدرك تماماً ما يدور بخلدي، و لهذا لم تنتظر مني إجابة و أكملت :
أعلم أن من يختار هذا الطريق عليه أن يتحمل تبعاته حتى النهاية، لكن لماذا عليّ أن أعيش لحظات متقطعة بين الألم و الأمل ؟ لماذا لا نأخذ الآه جرعة واحدة، لننعم بعدها بطعم حقيقي للسعادة ؟؟
أجبتها هذه المرة :
ربما لأننا تمازجنا مع الوجع حتى صرنا وجهان للنزيف ، و ربما لأن الذين ينعمون بالدفء و طعم الخبز الحقيقي لا يعلمون شيئاً عن القلوب التي فرقتها الحواجز و كبلتها الآه و السلاسل .فهؤلاء لا يعرفون إلا شكلاً واحداً للحياة .
لكن الحياة الحقيقية فيها من كل شيء لونان ، لا تظني أنك وحدك ، فأنت نموذج لآلاف الحكايا ال مشابهة ، لكن المهم أن يظل في القلب ركن يستطيع أن يستقبل النور حين يأتي ليرسم على الشفاه ابتسامة أكي دة
سألتها و نحن ننهض:
أتراك لن تنتظريه هذه المرة؟؟
ابتسمت و قالت :
و كيف سيكون للأيام طعم إذا كانت بلون واحد ؟ و هل هناك أجمل من أن نعيش بانتظار الأمل ؟
ودعتها.. و كان الأصيل يمضي بطيئاً كأنما يحاول أن يتشبث قليلاً بآخر خيط للشمس قبل أن تدهمها الغيوم السوداء التي لن تستطيع أن تحجبها حين يبزغ الصباح ، لكن المهم أن تظل الشمس متمسكة بحقها في الإشراق و لو بعد حين